ضمن مُشكلات ثورة 25 يناير 2011 ضمور، ولا أبالغ في حال قُلت نُدرة، القراءات النقديّة الثورية للثورة. والنقديّة الثورية، هنا، تُفيد نقد وتقويم الثورة من قِبل من لديهم الحِس الثوري، والمعرفة بمنطق الثورة، والرغبة في تمكينها وتفعيلها في شتى المساحات. الأمر الذي ساهم في تكثير وشيوع الانتقادات غير الثورية (اليمينية الفجة) والانتقادات الثوروية (اليمينية المتشحة بلباس الثورة). الانتقادات التي كان أبرزها عدم وجود رأس للثورة، وعدم قدرة الثوار على الانضواء في تنظيم موحد، وعجزهم عن التعبير في لافتاتهم وشعاراتها عن برامج محددة، وهي كلها انتقادات مساوقة للتفكير السلطوي والتسيّدي، كما أنها تجيب على سؤال: ماذا نتوقع من الثورة؟ بشكل كئيب ومُسف.
قبل التعرض لموضوعنا، ينبغي التنويه إلى نقطتين؛ أولاً: إن أي معركة نتجت عنها خسائر معنوية أو مادية أو أفضت إلى استشهاد البعض لا يعني تقييمها (أو إعادة النظر فيها تمهيداً لتقويم المسار) الاستخفاف بقيمة البذل أو بالتضحيات التي قُدمت، إنما الوعي بمستقبل الثورة التي يُعد تحقيق أهدافها أكبر تقدير لكل من ضحى وبذل. ثانياً: لن نقوم في هذا المقال بتحرير مفاهيم الثوار والثورة واليمين واليسار... بشكل منفصل، بَيْد أننا سنوضح ما تعنيه تلك المفاهيم بشكل سيّال في زوايا الكلام وجوانبه.
أوّل ما يبرز بخصوص إشكالية النقد هذه هو سؤال شرعية النقد؛ من أين يستمد النقد شرعيته؟ توجد إجابة شهيرة، نقرأها في العديد من الكتب الفلسفية، تقول إن الفكر الحديث ليس فيه نقد بل كلّه نقد. ومع ذلك، تُحتم علينا الاعتبارات النظرية والعملية تفنيد الأسباب التي تجعل من نقدنا هذا نقداً شرعياً. السبب الأول: إن منطقة النقد لا تقبل الفراغ، من حيث إن السياسة لا تشتغل من خلال مفهوم المُقدس، إذ كل فاعل سياسي أو حدث سياسي عُرضة للنقد بشتى الطرق، من هنا تكون أحد أهداف العملية السياسية (بشكل حاسم) تجفيف منابع القداسة في المجال العام، المتعلقة بالماضي والحاضر والمستقبل، وذلك لتمكين الرأي والاختيار، وتجفيف هنا لا تعني قتل كل ما هو مقدس (فهذا محال) ولكن مساءلته ومقاربته عقلانياً. الثاني: وهو سبب يُعد نتيجة للأول، الوقوف ضد نقد الثورة هو وقوف في صف الثورة المضادة، إذ تعمل هذه الأخيرة من خلال شبكة مفاهيم كالأب والذَكر والبِكر والتراث والماضي وكل ما هو مقدس ولا تاريخي، ومن ثم فإزاحة الثورة من حيز التاريخية إلى حيز اللاتاريخية ومن جانب المعنى المتغير والسيّال إلى جانب المعنى القار والسكوني يفيد ضمّها لشبكة مفاهيم وعلاقات لغة وواقع الثورة المضادة، وهو ما يعني الحكم عليها بالإعدام معصوبة العينين، بشكل خسيس ومهين. الثالث: من أجل تقوية فرص الدمقرطة في مقابل الإرهاب. فالإرهاب الثوري ينتج عن الفجوة بين من يؤمنون بالعدالة (أو ما يطلق عليه العدالة الانتقالية والتحول الديمقراطي) ومن يرفعون رايات الانتقام والشطط، فحين تزيد كِفة ما هو هستيري (منفعل بشكل مفرط) ونرجسي (مجنون بالعظمة غير قادر على المشاركة) يحدث ما هو إرهابي. وهو ما حاولنا معالجته بشكل محدود في مقالنا الموسوم بـ "فزاعة الفلولية".
والخلاصة في ذلك أن نقد الثورة يستمد شرعيته من الممارسسة السياسية والوقوف ضد الثورة المضادة والاصطفاف مع ما هو ديمقراطي. بكلمات أخرى: من أجل تمكين روح السياسة؛ من أجل تمكين الثورة؛ من أجل تمكين الديمقراطية.
ثاني ما يبرز هو الحُكم، فحين نقول إن نقداً ما ثوري أو ثوروي أو غير ثوري إلى أي شئ يستند كلامنا حتّى لا يكون محض حكم قيمة؟ نتحرك هنا من تأويلنا لمنطق الثورة؛ كيف تشتغل وتشتبك وتتمظهر. بداية، الثورة طوعية؛ فهي لا تشتغل بمنطق القسر أو الواجب، ليست قوات نظامية أو بيروقراطية، فلا مؤسسات تعاقب المتخلفين أو تلاحقهم أو تبتزهم. حركة طوعية تنفعل بأساليب الدعوة والحس المشترك: "يا أهالينا انضموا لينا، دي الحرية ليكو ولينا". الدعوة بما هي ترغيب وتبشير ووعظ وطُوبى ووعد بالسعادة. ثانياً، الثورة تقوم على التواطؤ؛ فلا مكان لقانون أو لائحة أو قَسَم، ولكن تواطؤ. ونعني بالتواطؤ الرغبة في تسيير الأمور بشكل عفوي من أجل التمكن من تحقيق بعض المطالب وإخضاع بعض (السلطات). ونعني أيضا الكلام في صمت جواني، والإجماع بشكل محدود، والتمثيل بشكل أكثر محدودية، وتقسيم العمل بمعايير المبادرة. والثورة، ثالثاً، ذات طبيعة شبكيّة؛ حيث الرمز هو الجموع، والهرَم بضاعة مزجاة، والمِنصّة على مضض.
وفقا لهذا التصور (أو تلك المسطرة) يكون منطق الثورة على النحو التالي: طوعي غير قسري، تواطئي غير قانوني، شبكي غير هرمي. وبهذا نحدد أداة للقياس أو التمييز بين ثلاثية الثوري، الثوروي، غير الثوري.
وبعد أن أوضحنا مشروعية النقد وبينا أداته، نتجه لمُساءلة نقدين أساسيين تم الترويج لهما، وقد ذكرنا (أعلاه) أنهما ضد منطق الثورة، ثم نشرع (في المقال القادم) في طرح انتقاداتنا النابعة من تأويلنا لثورة 25 يناير وحركتها.
رأس الثورة
ينطلق هذا النقد من تصور عتيق وبليد للثورة يستدعي الزعيم المُلهم (الأب، الذكر) والمُخلص، جاهل أو متجاهل للتطورات التي حصّلها مفهوم الثورة وقطع بها مع النظريات الكلاسيكية والماركسية اللينينية واللينينية التروتسكية، من خلال أطروحات التحول الديمقراطي والحركات الاجتماعية والعصيان المدني واللاعنف. كما أنه أسير رؤية حزينة لسيكولوجيا الجماهير تعتمد مفهوم الكاريزما والسيد (بخصوص مفهوم السيد من المفيد الرجوع لمقالتي علي الرجال في جريدة السفير) ومتخم بحمولات مهدوية. ولا نبالغ في حال قلنا إنه تصور رجعي بالمعنى الحرفي للكلمة. هذا على المستوى النظري، أما على مستوى التوازنات السياسية، فهو ابتزاز من أجل الجلوس على طاولة المفاوضات. وعليه، فهو نقد لا يخرج من محددات الشبكية والتواطؤ بل يعمل على تقويضها. هذا التصور (رأس الثورة) أحد حمولاته مفهوم "الدكر"، الوصف الذي أُلحق بشخص المشير عبد الفتاح السيسي، بما هو لفظ يحمل بداخله معانيَ ترتبط بالمركزية الذكورية والقضيبية النرجسية كمعايير للفعل الاجتماعي، كما تحمل الخصيتين دلائل الفحولة. "دكر" بما هو تصور يطرح الذكورة (أو القضيب) كأداة قياس لكل شئ: "ست.. بمية راجل" (فرج المرأة كقضيب مقلوب).
التنظيم الموحد والبرنامج
هذان النقدان من نفس بطن النقد السابق ولكن بجرعة مخففة. رأينا دمجهما في فقرة واحدة لشدة تشابكهما، فافتراض البرنامج يعني افتراض الحزب وافتراض الحزب يعني افتراض البرنامج. وكلها انتقادات جبانة تخاف من الرخو والسائل والشبحي، وتعلي من الهرمي والقسري والقانوني على حساب الطوعي والتواطئي والشبكي، وتتعجل المنافسة السياسية المقننة على حساب الحركة المزمجرة التي تكتسب أراضيَ ومساحات بسرعة وإصرار.
إضغط/ي هنا للإطلاع على الجزء الثاني من المقال